On the 15th anniversary of the departure of the artist Shaker Hassan Al Said on March 5, 2004
English
في الذكرى الخامسة عشرة لرحيل الفنان شاكر حسن آل سعيد في 5 آذار 2004

في الذكرى الخامسة عشرة لرحيل الفنان شاكر حسن آل سعيد في 5 آذار 2004

بعض ما كتب عن هذ الفنان المبدع:
الفنان نوري الراوي
"يمارس عبر ذهنه الجوال إبداع الأساليب المادية التي تستطيع حمل أعلى طاقة روحية ممكنة، ويضعنا أمام امتحان عسير لقدراتنا الذاتية في التعبير عن استشهاد الانسان وعذاباته وانتصاراته ومجاهداته الروحية، ومن هذه النقطة يبدأ شاكر حسن رحلته في الزمن والأبعاد الانسانية"

الناقد فاروق يوسف
" الرسام الذي توفي عام 2004 كان فاتحا، لا بكتبه أو رسومه وحدها، بل وأيضا بنظريته في أن يكون الفن مستلهما من حياة الشعب، بمعنى أن يكون الجمال سيدا في لعبة لن يمتنع الشعب عن المشاركة فيها"

الكاتبة مي مظفر
"شاكر حسن الذي ملأ الفضاء الثقافي العربي عامة والعراقي خاصة لأكثر من نصف قرن من الصعب أن يغيب، فطاقته على تحريك قدرات الآخرين ستظل كامنة في تلك التفاصيل المغيبة عن أنظارنا والمحيطة بنا، تلك التي جهد الفنان لاقتناصها وتصويرها بل لا اعتقد ان بوسع اي احد منا ان يمر أمام جدار متآكل وملطخ دون ان يتجلى امامه طيف الفنان"

• 1925 ولد في السماوة، العراق
• 1948 تخرج من دار المعلمين العالية ( فرع العلوم الاجتماعية)، العراق
• 1951 المساهمة مع جواد سليم في تأسيس جماعة بغداد للفن الحديث
• 1945 تخرج من معهد الفنون الجميلة (الرسم)/المسائي/ دبلوم رسم، المعرض الشخصي الاول /بغداد على قاعة معهد الفنون /بغداد
• 1955 – 1959 الدراسة الفنية في معاهد فرنسا /الفنون الزخرفية (معهد البوزار)، باريس
• 1961 المعرض الشامل الاول، قاعة معهد الفنون الجميلة، بغداد
• 1966 معرض تأملات ومعارج /قاعة المتحف الوطني للفن الحديث/بغداد
• 1971 تأسيس تجمع البعد الواحد، بغداد
• 1974 معرض شخصي (رؤى تأملية)، بغداد
• 1975 مهرجان كان، سورمير، فرنسا
• 1976 بينالي البندقية المعرض العراقي في المركز الثقافي، لندن
• 1979 بينالي سان باولو الخامس عشر، البرازيل
• 1980 معرض شخصي، بيروت، معرض مشترك، تونس
• 1981 معرض شخصي، جاليري سلطان، الكويت
• 1982 التفرغ للتأليف والرسم، وزارة الثقافة والأعلام، بغداد
• 1983 المعرض الشخصي، قاعة الرواق، عضوية رابطة النقاد (ايكا(
• 1985 المعرض الشخصي (تأملات موضوعية) قاعة الرواق، بغداد
• 1986 معرض التخطيطات (الحرب والسلام) قاعة بغداد، بغداد
• 1986 ترينالي الهند السادس / نيودلهي ، جائزة صدام الدولية (الأولى) / بغداد
• 1987 المعرض الشخصي (قاعة مركز صدام)
• 1988 المعرض المشترك مع (علي طالب وعامر العبيدي)، الكويت
• 1989 معرض (تواشج العلامات)، باريس/ معرض مابين دجلة والفرات، قاعة معهد العالم العربي، باريس
• 1990 سبعة فنانين عراقيين، قاعة مؤسسة شومان، عمان
• 1992 المعرض الشخصي، قاعة مؤسسة شومان، عمان
• توفي في بغداد 2004

تجدون ادناه صور لبعض اللوحات للفنان ضمن مجموعة الابراهيمي الفنية - عمان

Artist Noori ALRawi Talks About Artist Shaker Hassan ALSAID

“Through his wandering mind, he practices the creation of physical methods that can carry the highest possible spiritual energy and puts us in front of a difficult experiment of our own abilities to express the martyrdom of man, his suffering, his victories and his spiritual experiences. From this point Shaker begins his journey in time and human dimensions”

Critic Farouq Yousef Talks About Artist Shaker Hassan ALSAID

“The painter who died in 2004 was a beginner, not only by his books or drawings, but also by his theory that art should be inspired by the lives of the people, meaning that beauty was a master in a game in which the people would not refrain from participating”

Writer May Muzuffar Talks About Artist Shaker Hassan ALSAID

“Shaker Hassan, who filled the Arab cultural space in general and the Iraqi especially for more than half a century is difficult to miss, his ability to move the capabilities of others will remain latent in those details that is absent from our eyes and surrounding us, those that the artist strive to capture and photograph, but I don’t think any of us can pass near an eroded and stained wall without remembering this great Artist”

Artist Shaker Hassan ALSAID Biography

1925 - Born in the City of Simawa - Iraq.

1942 - Worked in the survey department (Maps printing office) Baghdad.
1948 - Graduated from Teachers College - Baghdad / B.A. in social sciences.
1951 - Contributed with Jawad Saleem in establishing the Group of Baghdad for Modern Art, and participated in its exhibitions.
1954 - Graduated from the Institute of fine arts / Evening - Diploma in painting. First personal exhibition in the Institute of fine arts Gallery - Baghdad.
1955 - 1959 - Studied in the institutes of France (Paris) - Decorative arts - Beaux-Arts.
1961 - First general exhibition / Institute of Fine Arts Gallery - Baghdad.
1966 - Reflections and Ascensions Exhibition - The National Museum of Modern Art Gallery / Baghdad.
1968 - 1969 - Taught "painting" in the Saudi Arabia, Emergence of the idea of "one dimension".
1971 - Established the "One Dimension Group" - First exhibition - The National Museum of Modern Art Gallery / Baghdad.
1974 - Reflective Visions Exhibition - The National Museum of Modern Art / Baghdad.
1975 - Participated in the Festival of Cannes Sur Mer - France.
1976 - Venice Biennial - Italy
1977 - Arab Art Exhibition - The Iraqi Cultural Centre / London.
1978 - Personal Exhibition - Sultan Gallery / Kuwait.
1979 - The 15th Sao Paolo Biennial - Brazil.
1979 - 1980 - Personal Exhibition - The Iraqi Cultural Center / Beirut. An exhibition with Naja Al-Mahdawi, Tunisia.
1982 - Devoted himself to painting and artistic theoretization.
1983 - Member of the International Art Critics Association (IACA).
Reviewing the newest achievements of art in Paris and Venezuela (Symposium of IACA Caracas).
1986 - New Delhi Triennia - India.
1988 - The Intimacy of Signs exhibition - Institut du monde Arabe / Paris / with foreign artists.
1992 - Counselor in Abdul Hameed Shoman establishment / Amman, Introduced an exhibition.
1992 - Personal exhibition - The Jordanian National Museum Gallery of Modern Art / Amman
1994 - The 4th One Dimension Group Exhibition - Ab'aad Gallery / Amman. Founded the symposium of Aesthetic Discourse - Saddam Art Center / Baghdad.
1995 - The Double Painting Exhibition - Baghdad Gallery / Baghdad.
1996 - A Personal exhibition of (Double and One Dimension paintings), the French Cultural Center / Amman. The 5th One Dimension Exhibition - Ab'aad Gallery / Amman. Personal Exhibition, 50 x 70 Gallery / Beirut.
1997 - Environment, Surrounding, and Ecology in the Iraqi Art - The Jordanian National Museum Gallery / Amman.
1997 - Personal Exhibition, The French Cultural Center / Baghdad.
1998 - "Doubles and Allusions" Personal exhibition - Artms Gallery / Tunisia.
1998 - "Doubles and Allusions" Personal exhibition Ar-Ruwaaq Art Gallery / Bahrain.
1999 - Personal exhibition, the 1990s works of Art - Athar Art Gallery - Baghdad.
2001 - The General retrospective exhibition - Athar Art Gallery / Baghdad.
2003 - Personal exhibition - Biennal Al Chariqa
2003 - Personal exhibition - Dar El Andi, Amman
2003 - Personal exhibition - Gallery Bissan, Al Dawha
2004 - The artist passed away

Below are photos of the Artworks of the artist part of Ibrahimi Collection -Amman

تحية إلى شاكر حسن آل سعيد
في ذكرى رحيله
في مساء خريفي من عام 1969م، ولدى عودتي إلى الدار سيرا، استوقفتني لافتة على جدار المتحف الوطني للفن الحديث تحمل عنوان معرض للفنان شاكر حسن آل سعيد بعنوان "المعارج". فدفعني فضولي إلى مشاهدة ما يمكن أن يكون عليه معرض فني حديث ذي مضمون أدبي روحاني.
كانت مجموعة الأعمال في الطابق الثاني من مبنى المتحف الوطني للفن الحديث (كولبنكيان)، وكانت الإضاءة في قاعة العرض خافتة إلا من مصابيح مسلطة على الأعمال المعروضة: ألوان مائية وأحبار على ورق. كانت الأعمال محض تجريدية: نهر أزرق يخترق فضاء أبيض يشقه إلى نصفين، خط أسود عميق ينطلق في حركة تصاعدية من أسفل اللوحة إلى أعلاها. أحسست باضطراب أمام هذه التكوينات التي التبست عليّ لغتها بقدر ما فاجأتني تكويناتها. تقدم مني الفنان شاكر حسن الذي كان يجلس على طرف من القاعة يراقب زائرة يراها لأول مرة. بادر بتقديم شرح لبحثه البصري، زادني إرباكا، لكنه كان أول درس متعمق لي في الفن، وبداية صداقة متواصلة واكبتُ خلالها كل مرحلة من مراحل عمله.
الحوار مع شاكر حسن (1926-2004) يسير وشاق، هادئ تارة واستفزازي في معظم الأحيان، ولكنه حوار غني بالمعرفة والرؤى. قد لا يسفر عن ملامح محددة، ولكنه بكل تأكيد قادر على أن يزج محاوريه في بحر متلاطم يظل موجه يحرك الفكر والمشاعر، بل تظل ذبذباته تلاحق الفكر وتجرّه إلى حوار مع الذات لتأمل ما قاله الفنان لفظًا وما أشار إليه ضمنا. وذلك ما ينطبق بالتأكيد على أعماله بكل مراحلها، حتى التشخيصية منها؛ ثمة مساحة فارغة لشيء سيولد، أو ربما هو موجود غير مرئي شأن كثير من الأمور المحيطة بنا. في أعماله قوّة كامنة بإمكانها أن تفجّر فيضا من المشاعر والرؤى لدى المتلقّي.
ثم شاءت الظروف أن نجتمع في حقبة التسعين في عمان وفي دارة الفنون على وجه التحديد. كنا نلتقي في كثير من الأحيان في المكتبة. أحيانا كان يحلو لي أن أراقب الأستاذ شاكر وهو يبحث في أدبيات الفن ويتصفح نظرياته لما بعد الحداثة والتي توافقت نظرياتها مع تطور بحثه البصري والفكري. لقد كوّنت قراءاته تلك مصدرا مهما لإغناء مشروعه الذي كان يسعى إلى الغوص في أعماق الزمن وقراءة التراث البصري والفكري لحضارة وادي الرافدين من ذلك المنظور العصري.
وكثيرا ما كنت أراه يتوقف فجأة عن القراءة، يحنى رأسه ويعقد حاجبيه ليسرح ربما في مضمون شيء مس وجدانه فهز كيانه، وجرّه إلى التأمل، أو أوحى إليه بفكرة ما. إذ غالبا ما كان يخرج باستنتاجه الخاص. من خلال هذه اللقاءات التي كثيرا ما كان يتخللها الحوار والنقاش، تنبهت إلى النزعة الانتقائية لدى شاكر حسن، ووجدتها لا تقتصر فقط على توظيف العناصر البيئية في أعماله بل تشمل أيضا المعاني والأفكار التي يبلورها من خلالها مفاهيمه ورؤاه بعد أن يتفاعل معها ويضيف إليها ما يتواءم معها من خزينه الذهني والحسي. وأعتقد أن جلّ كتاباته النظرية في فلسفة الفن تخضع للمنهج ذاته الذي تخضع له تكوينات لوحاته. فهو لم يكن يرى بعينيه فقط بل بكل جارحة من جوارحه، وحين يتلقف إشارة من المحيط، أو تأسره جملة في النص، يتوقف عندها ثم يبدأ بإمعان النظر بما وجد. هكذا كان يغوص بالرؤية ويحفر ثم يحفر حتى يفقد طريق العودة ويتيه في مجاهل الشقوق. تنتهي أمامه المسافة ولا ينتهي البحث.
حين كان يعمل مستشارا ثقافيا في دارة الفنون في عمّان 1993-1994، وفي أثناء تجواله في وسط المدينة، لفت انتباه الفنان شاكر كشكا في منطقة العبدلي مهجورا. وسرعان ما رأى فيه مشروع عمل فني كبير، بل بلغت حماسته إلى حد الاقتراح على دارة الفنون أن تشتري الكشك. ووافقت السيدة سهى شومان، التي كانت معجبة جدا بفنه وأفكاره، ولكن فكرة الشراء قوبلت بالرفض من قبل أمانة عمان ومالك الكشك. وقد أشار رافع الناصري، في معرض تأبين الفنان في دارة الفنون خريف 2004، إلى كشك العبدلي بوصفه أحد الشواهد الدالة على القدرة الفائقة للفنان آل سعيد في البحث والتقصّي، واعتبر ما تراكم على ذلك الكشك من آثار الزمن أثراً فنياً سيصبح فيما بعد جزءاً من أساسيات بناء اللوحة لدية، وما سوف يتبعه من اختزال لوني سيظل يشير إلى نتائج التصوف في بحثه التشكيلي مع ذاته ومع مفردات العالم المحيط.
عاش شاكر حسن دائما في فنه ولفنه، وجل مسعاه انصب في تحويل الوجود إلى قيم فنية إنسانية. لقد حاول أن يمسك في أعماله بالمرئي وغير المرئي؛ الملموس والمجرّد. تكويناته بجميع مراحلها تشي بهذه النزعة. وهي إذ تجلت بشكل ما في "المعارج" ثم في "الجدران"، فإن تجربة اللوحة المزدوجة، التي تشاهد من وجهيها، ربما تكون قد قرّبته من تحقيق الرؤية الشاملة، فجمع في آن واحد المحيط المرئي و"تقنياته" كما يسميها هو، أي العناصر المكمّلة للوجود كالذرات والحركة والصوت.
كان آخر مرة رأيت فيها شاكر حسن في البحرين، حين جاء لحضور معرضه الشخصي الذي أقيم في قاعة الرواق خريف عام 1998م. ذهبنا أنا ورافع للقائه قبل يوم من الافتتاح، فوجدناه واقفا يراقب بصمت عملية الإعداد للعرض كان يرتدي دشداشة بيضاء وقد غمر البياض شعر رأسه ولحيته وعلى وجهه ملامح حزن واغتراب. كان حاضرا وغائبا؛ عيناه تائهتان تبحثان في الوجوه عن شيء ما، وصوته يتهدج في الحديث. لمحت رعشة واضحة في يديه حين ضمهما إلى صدره وهو يحييني، وطافت على وجهه مسحة فرح ويقول: "عندما أراكما أشعر بأنني بين أهلي". استأذنه رافع لتوثيق هذه اللحظات بالفيديو، وشرع يطرح على شاكر أسئلة تتعلق بأعمال معرضه، في محاولة لجرّه إلى الحديث عن تجربته. حين صحبناه معنا للغداء افتقدنا في حضوره روح المرح وضحكته المجلجلة.
في اليوم التالي للافتتاح غادر عائدا إلى العراق. لم يستطع أن يطيل إقامته. لعلها كانت بداية حالة الكآبة الحادة التي استحوذت عليه ودفعته في نهاية الأمر إلى الاعتزال ثم الوفاة. كان قرار الاعتزال حسبما قال يعني لديه الابتعاد عن الآخرين والاقتصار على:" مخاطبة الذات كآخر.. إنه كيان مستقل. قد تكون هذه العبارة فلسفية أكثر من اللازم، ولكن ما يحدث في العالم من شرور تدفع الإنسان إلى الاعتزال ..الاعتزال هو حماية الآخرين من أخطائي" . اعتزال فنان بهذه القامة "حماية للآخرين من أخطائه" أمر ذو شأن، ويحتمل الكثير من التأويل والتساؤل عما وراءه.
لكن شاكر حسن، الذي ملأ الفضاء الثقافي العربي عامة والعراقي خاصة لأكثر من نصف قرن، من الصعب أن يغيب. كان سبّاقا لزمنه بامتياز. طاقته على تحريك قدرات الآخرين ستظل كامنة في تلك التفاصيل المغيّبة عن أنظارنا والمحيطة بنا، تلك التي أجهد الفنان نفسه لاقتناصها وتصويرها. بل لا أعتقد أن بوسع أحد منا أن يرى جدارا متآكلا ومليئا بالأثر الإنساني من غير أن يتجلى أمامه طيف الفنان.

مي مظفر
عمّان، 4 آذار 2019

المصدر صفحة الكاتبة مي مظفر على الفيسبوك الرابط : تحية إلى شاكر حسن آل سعيد

 

 

شاكر حسن ال سعيد بعين تلميذه

عمار سلمان داود

"الرسام الذي ينقل صورة شجرة يعمي نفسه عن الشجرة الحقيقية “بيكاسو

(( حقًا ان للفنان بوصفه كائناً بشرياً حالات وجدانية ومقاصد إرادية وغايات شخصية, ولكنه باعتباره فناناً انما يعد موجودًا اسمى او انساناً ارفع, لانه يمثل (الانسان الجمعي) الذي يحمل لا شعور البشرية, ويشكل الحياة النفسية لها )).
يونج

اذا كانت لكلمات ( بيكاسو) او ( يونج ) هذه ان تنطبق على فنان ما انطباقاً تاماً او كان لسان حال منجزه الابداعي مشيراً اليها فلا مناص من الاعتراف بأن ذلك الفنان هو شاكر حسن ال سعيد نفسه, فقد اراد ومنذ البداية ان يوسع حدود جغرافية عالمه الشخصي ( الذاتي ) لينطلق دائماً نحو ما هو ارحب واشمل وهو الحضارة عينها. وسنرى ان الفنان يوسع مفهومه للحضارة لكي يتسنى له الحاقها برؤية تتجاوز الانسانية او المدنية وصولا الى افق كوني او( خليقي ) كما يحلو له ان يصفه. وحين يتعلق الامر بحقيقة العمل الفني فسنرى ان شاكر يتناول بنيته على اساس منهج اختزالي ينحو الى الغاء كل ما علق به من وظائف خارجة عن حقيقته الوجودية او البنيوية ليتوصل الى طرح عالمه ( الابعادي ) على طاولة المناقشة في انٍ او ادخاله الى المختبر الابداعي في انٍ اخر, فالعمل الفني بصفته ( شيئا) سيكون بمعزل عن الوظيفة الدعائية او الاجتماعية فهو لا يشير الا لذاته عينها باعتبارها ( وعاء ابعاد ) اكثر من كونها ( دلالة) او( مقصد) والاحرى بالفنان هو مناقشة النظام البنيوي لعمله الابداعي وهو الذي يشكل قطباً في مواجهة الاقطاب الاخرى: الفنان, المحيط,, الجمهور, وهي الاقطاب التي سوف يتنقل وعي الفنان مراراً فيما بينها ضمن مواقف فكرية اتسمت بالتوتر والقلق والمغامرة طيلة حياته الابداعية.

توفي شاكر حسن ال سعيد تاركا وراءه عدداً لا يستهان به من النقاد ومدعي النقد وفنانين ومدعي فن وجمهوراً عريضاً, ولكن عدداً غير قليل منهم لم يتسن له ان ينتبه الى الاهمية الكبرى لهذا الرجل في الثقافة العراقية ، ليس على صعيد الفن فحسب, بل على صعيد الثقافة العراقية بمجملها. كان ضرورياً جداً ان تتم المطالبة بانشاء متحف خاص به ومنع خروج اعماله من الوطن لبيعها، ولكن مع ذلك، حسنا فعل المقتنون لاعماله - لان بلد تحكمه عقول فاسدة لا تفهم في قيمة الفن لا بد من تفويت فرصة تخريب ارثه عليها - كان المفروض البدء بجمع وارشفة كل ما كتبه ونشره في الصحف اضافة الى مخطوطاته التي لم تر النور بعد, وتقرير مصيرها من خلال اعتبارها ارثاً حضارياً مهماً. ولست هنا بصدد ذكر كل مناقب هذا الرجل وفضائله الجمة في ثقافتنا, بقدر ما يهمني هنا ان احاول تقديم رؤية ذاتية لتلميذ له كان يكن له اشد الاحترام والمحبة ولسوف اعتمد هنا وهناك على ما تيسر لي من مادة نصية مطبوعة او سمعية – مسجلة في اشرطة كاسيت- او ذاكراتية, فالرجل لم يبخل في تزويدي بما تيسر له من وثائق قدر استطاعته وقد تم هذا في واحدة من احلك ظروف الحال العراقي (اثناء زمن الحرب العراقية الايرانية ومرحلة الحصار), ذلك لان أي نظرة عارفة ومنصفة او موضوعية لما فعله سوف تؤدي الى خلخلة او تشذيب الكثير مما هو مؤسس على اوهام دامت لعشرات السنين حول ماهية الرسالة الثقافية لفننا الوطني, لقد ترك الرجل ارثا معرفيا هائلا سيؤدي بالتأكيد استخدامه من قبل الاجيال الذكية القادمة, إلى دحض المشروعات الايديولوجية التي قامت على طوباوية مصنوعة من فقاعات هوائية تدعي انتماءها الى شروط كفيلة بإسعاد البشر كذبا وبهتانا او واقعية اشتراكية مزعومة مؤسسة على رؤية بصرية فوتوغرافية بائسة وفي احسن احوالها رمزية مؤسلبة ضالعة في رومانسية سيئة الصنع تمس سطوح الظواهر دون ان تجازف فى النفاذ الى عمقها الانساني او الكوني - متوسلة برموز ومفردات مستهلكة هي اشبه بمحاولة اعادة الحياة لمومياء. لقد اصبحت المدركات الشكلية السائدة والمستهلكة في حياتنا اليومية والثقافية مجرد سمات دخول في مواطن الانتماء الى المحلية. لقد انتشر تدمير منظم للحرف العربي من خلال معاملته كمادة للتزويق او للحشو وملء الفراغ, وقد حدث الامر عينه مع المفردات الزخرفية والمنمنمات العربية والتماثيل السومرية والمخطوطات والهلال والمثلث والزقورة والشناشيل والطلاسم والارقام …الخ لقد اسند لها دور ( الذريعة ) او ( الحشوة ) حتى تم لهذا الجيش التنصل بجدارة عن حساسية ملهماته ورقتها وعمقها, لن ننسى هنا ما ذهب اليه البعض لتغطية عجزهم عن انجاز ما هو جديد وطلائعي من خلال الاعتماد على سياسة الاتكاء على منجز الاخر الذي تم له حجز مكان مرموق في الفضاء الثقافي المحلي او العالمي, حيث يتم استجداء التزكية الثقافية ( وهي الوصفة التي اصبحت معروفة للجميع وانتشرت كالنار في الهشيم ), يكفي ان تتصل بشاعر مشهور لتطلب منه ان يسمح لك بعمل كتاب يحتوي على رسومك واشعاره … اليس كذلك؟ - يمكن ان نسمي هذا النوع من الفن ب( فن العكازة ) او ان يجاور اعمالك اسم معروف او كلمة ذات شحنة عاطفية, حضارية, روحية, فلسفية, شعرية وما الى ذلك من الشحنات مثل: برزخ, الحلاج, مخطوطة, تعويذة, تعاويذي, طلسم, سحر, حبر, متاهة, كلكامش, روح …الخ, دون أي حرج من المسائلة الممتحنة ( بكسر الحاء ) ومن الذي يسائل ؟ اذن ستؤخذ الامور على ما هي عليه ولسوف نغرق في طوفان الامتهان الهستيري لكل ما هو ذي عمق ودلالة حية لملامح الشخصية الحضارية الوطنية, وسيصاب البعض بحمى استلهام التراث الى الحد الذي ينزع عنه اهم اسباب ديمومته وهي سرية روحه وعفة وهجه الالهامي, لا اريد ان استرسل في هذه الفضائح فالوقت لم يأزف بعد للمحاكمات النقدية خصوصا وان بلدنا يمر بازمة لن تحلها اكبر المعجزات.

لنقرأ اذن واحدة من اجمل واعمق اقوال المرحوم شاكر والتي هي من صلب المشروع ما بعد الحداثوي اليوم: ((… ونهاية هذه المواقف الواقعية هو ان يكتشف الانسان الواقع في محيطه دون فنان, دون واسطة , يختزل الطريق لفهم الواقع فهما مباشرا , ولكن في هذه الحالة يتحتم على الانسان المشاهد الذي اصبح في موقع الفنان ان يمارس ما يستطيع ان يمارسه الفنان في عزل العالم المشاهَد ومحاولة رؤيته بالشكل الذي يجد فيه هذا الواقع , في هذه المرحلة اذن لا يعود هناك فنان وانما فقط مشاهد ومحيط يحيطه وبهذه الصورة يتحقق معنى الكشف في العمل الفني .))

ان التجارب الابداعية الاخيرة في العالم والتي استلهمت مقولة ((النحت الاجتماعي)) التي اطلقها الفنان الالماني جوزف بويز او ماذهب اليه الامريكي الان كابرو: " يجب ان تكون الحدود ما بين العمل الفني والواقع اكثر هشاشة كلما كان هذا ممكناً " وهي التي سوف تمعن وبشكل اساسي على الاقتراب شيئاً فشيئاً من فحوى مقولة شاكر حسن ال سعيد والتي هي لا تقل عمقاً ودلالة من مقولة بويز او كابرو وايديولوجيتهما الابداعية.

لقد انشغل شاكر بمنطقة مهمة ولكن ملتبسة وصعبة جداً على المتلقي العادي وهي ( النص الصوفي ومكوناته الفكرية ) ولم يكن غرضه ارتداء ( ملابس الامبراطور ) كما سوف يخيل للبعض ولا حتى الاتكاء على افكار لم يراد لها ان توضع بدافع من نزق فكري - وهو العارف جيداً بذلك - بل امعن مبدعوها في احكام نسيج معانيها الى حد الحاجة الى اقصى درجات التركيز وتفعيل ملكة الحدس للتآلف معها او تلقيها ناهيك عن شدة تحرز هؤلاء بعد ما عانوه من مآس ( صلب الحلاج وقطع اطرافه مثلا ) وهذا ما دعاهم الى ابداع ( لغة اضطرار): إيمائية, رمزية, شفرية, وشعرية ولسوف يتماها شاكر معها ليجد فيها ( البوابة البلسم ) التي حلمها والتي ستطيّب الجرح الغائر فيه وفينا منذ دمار بغداد الاول على يد المغول بما تضمره من عمق وانسانية ورؤية ظاهراتيه ووجودية كونية, وليراها فيما بعد تنفتح على افق امكاناتي هائل وقادر على منح المنتج الابداعي المحلي هويته الحقيقية.

كان الرجل مخلصاً في محاولاته لايصال رسالته الابداعية والانسانية, ولم تنقصه الحساسية القصوى في التنقيب واكتشاف مواقع ضالته وهو العارف باهمية الوعي الاركولوجي حيث التنقيب في اعمق الطبقات اضافة الى موهبته الواضحة في مجال الفحص الظاهراتي لكل من المنجز الابداعي او المصادر الالهامية .
كنت اشعر ان شاكر كان كمن يستحضر في كل لحظة شطح صورة متخيلة لشبكة هائلة من المقابلات التي لا يحدها زمان ولا مكان وهو الذي قال يوماً: أيكون العراقي وكل عراقي هو نفسه كلكامش الذي سرقت الافعى منه نبات الخلود؟ وليجد في كلمة افعى او (الحية) التي الهمته اصداء ومعاني ما لا يصبر عليه حتى ينهي به احدى محاضراته في معهد الفنون الجميلة في المنتصف الثاني للسبعينات: الافعى , الرفاعي عشير الافاعي , مدينة الحي من كلمة الحياة او الحيّات في اللهجة الشعبية وهكذا يسترسل في شرح التداعيات حتى ينهي محاضرته بقراءة جديدة لآية الكرسي وبذكر كلمة يا حي و يا قيوم عشرات المرات.

الحلاج النفري فريد الدين العطار السهروردي

لقد صنع من مقولاتهم منارات هداية, له ولنا, ولم يتوان عن ذكر وشرح نصوصهم لنا اثناء تدريسه لمادة تاريخ الفن في معهد الفنون الجميلة حتى اصبحت هذه المادة منطقة لمادة الفن وقرائنه: الفن والفلسفة, الفن والمجتمع, الفن والفكر الصوفي, الفن وعلم النفس, الفن والحياة, الفن والسياسة, الفن والمحيط, الفن والعلم.

وكانت اكثر مقولات الاستشهاد عنده تكرارا ما يلي :

كلما اتسعت الفكرة, ضاقت العبارة

  وعلم الالف في النقطة وعلم النقطة في الازل وعلم الازل في المشيئة وعلم المشيئة في غيب (هو) , وعلم غيب هو ليس كمثله شيء ولا يعلمه الا هو

عش لدنياك كأنك تعيش ابداً ولأخرتك كأنك تموت غداً

الله جميل ويحب الجمال

واكثر مقولاته اثراً في نفسي:

ليس الاسلوب ان يكون للفنان طابعه الشخصي في الانجاز ولكن ان ينجز عمله الفني بصورة شخصية, ففي دعوى الطابع شيء من القسرية حيث افاق الفنان محددة ابداً بسمة ما يميزه عن سواه

اللغة هي اثر الفكر

 العمل الفني لا يقتصر على الجمهور - وهو لا يستهدفه الا على المدى القصير - ذلك انه في النهاية يستهدف الكيان الحضاري

 ان الاصالة لا تأتي ابداً من (اقتباس التراث) كتقنية او اسلوب, بل تتأتى من ( اكتشاف ) طبيعة ( الموقف ) عند الفنان في زمانه, ثم العمل على اتخاذ ( موقف ) جديد معاصر يستطيع ان يحتفظ ( بروحية ) الطرح التراثي نفسه وأن لم يعتمد على اقتباس التراث في شيء

لازلت اذكر اول درس من دروسه في تاريخ الفن. كان يلقي علينا المحاضرة جالساً وقد تحدث عن الفن في العصر الحجري القديم والحديث تحدث عن العلاقة المثيرة للجدل ما بين الفن والسحر او الفن والتزيين واي العلاقتين كانت اكثر اقناعاً وقرباً من الحقيقة. كان يثير انتباهنا الى اهمية البحث في الموضوع بصورة شخصية وهكذا عرفنا اسماء الكتب التي كانت متداولة في ذلك الوقت وتتناول هذا الموضوع وعلى اثر ذلك قرأ عدد منا كتاب ( الفن والمجتمع عبر التاريخ ) لارنولد هاوزر, كان يكره صمتنا وسلبيتنا في التلقي وهكذا كنت اراقبه وهو يعاني من القلق والتوتر شيئاً فشيئاً كلما طال امد صمتنا وسلبيتنا ليتوقف فجأةً عن الاسترسال لحثنا على المناقشة والسؤال, كان يعي جيداً غموض بعض شروحه وكان هذا يسبب له قلقاً كبيراً كثيراً ما عبر عنه بلغته الجسدية ( كان يقضم اظافره بأسنانه ) وهي العادة التي لازمته منذ الصغر ولا ادري ان كان قد استمر بها بعد تركي للعراق في منتصف العام 1980 .

كان شاكر انساناً بسيطاً وشعبياً في مظهره, في تلك الايام كنت اشاهده مراراً مرتدياً بزة ذات الوان رصاصية بسيطة وكنت اميز صوت خطواته وهو يمشي في ممرات معهد الفنون الجميلة لارتدائه احذية ذات دعائم حديدية في اعقابها ( ابو النعلجة في اللهجة العراقية) وذلك لادامة حياتها, كان كالسواد الاعظم من العراقيين مفتوناً بشرب الشاي الذي كان يطلبه احياناً في محاضراته ( لنا وله) واني لاتذكر ذلك اليوم الذي بكى فيه الرجل بعد ان استغرق في ذكر بعض من تفاصيل تجربته الوجودية الاليمة في باريس ايام دراسته للفن, كان قد حجب وجهه الباكي عنا بيديه ليطلب فيما بعد قدحا من الشاي احضناها له

ان خليطا كبيرا من المفاهيم والمواقف حول الفن كان يعصف في فضاء المعهد في تلك الايام ومع ذلك يمكن ادراج تلك المواقف في منطقتين اثنتين: الرؤى الواقعية الاشتراكية بشقيها الستاليني و( جماعة ارنست فيشر وروجيه غارودي ) التحريفيين كما كان يحلو للشيوعيين تسميتهم اضافة الى المفاهيم القومية للحزب الحاكم في تلك الفترة لرسالة الفن, في مقابل شريحة اخرى درج الآخرون على تسمية اصحابها بالمعقدين او العبثيين الوجوديين, كانت اكثر النقاشات حدة حول الفن تتوجه باستمرار نحو انهاء الدرس دون اكمال موضوعه الاساسي, كان الشيوعيون يشككون في افكار شاكر متهمين اياه بالرجعية وموالاة الفكر البرجوازي فالرجل كان يعيش تلك الايام ما بين مطرقة وسندان الحزبين ناهيك عن ما كان يكتب عنه في الصحف المحلية من مقالات نقدية عقائدية غير منصفة متذرعة بخلو دعوة شاكر من الفكر العلمي التقدمي او افتقار اعماله الى الانحياز للجماهير وكان ذلك شرطاً اساسياً لقبول المبدع ودعمه من كلا الطرفين.

 

التأمل

يعرّف شاكر التأمل بما يلي: انه مجال لظهور الحقيقة كما هي, دون ان يكون (هذا التأمل) محملاً فوق طاقته ومثقلاً بمفهوم معين او عجزاً الى الجانب الانساني. اقول : اذا كان التأمل كذلك حقاً فأن الرؤية الفنية وفق هذا الاعتبار تصبح رؤية منبثقة من العالم الخارجي ومتجهة اليه في نفس الوقت.

 

وفي مكان اخر: … الواقع ان التأمل الفني في اساسه هو سلبية في الكشف عن الحقيقة. أي ان الفنان يقف متفرجاً على الكون وهو على بكارته الاولى. ومثل هذه الوقفة هي نهاية المطاف وبدايته في آن واحد لأنها تتضمن التسليم. ملحق الجمهورية 1966 رقم 46

اما الفن التأملي فيستدعي فهم العالم كحقيقة عامة وتامة فهو ( امكان صائر لأن يكون وجوداً ). ملحق الجمهورية 1966 رقم 43

سيؤدي اذن هذا التأمل غير المنحاز الى الغاء سلم الاولويات لابطال المشهد البصري للرسم وهكذا سيتبنى شاكر النهج الواقعي في اعمال كوربية ومنذ الخمسينات كما سيوضح ذلك في مقالته المعنونة ( الرسم مادة الحياة ) حيث لا فصل طبقي بين الكائنات في المشهد المصور ما بين الانسان والحيوان والجماد ولتختلط عناصر الوجود في كل متحد غير متفاضل وهي النزعة الوئامية التي سترافق مسيرة الابداع لديه الى النهاية بيد انها ستكون وئامية في ( الموقف ) من عناصر المشهد المصور في بدايات الفنان لتتحول فيما بعد الى وئامية ( الاسلوب ) في المراحل المتقدمة من تطوره. وهكذا سيصرح فيما بعد في كتابه ( الحرية في الفن, الصفحة 10 ): " وهكذا فأن دور( الاشكال الحيوية ) ليس في ان تطبع بوسمها الحيوي الا على قلوبنا وبصائرنا. لها ان نقول بلغتها الشاملة اننا جميعا نكون عالماً واحداً, ولا ان يقول ( الجمل ) انني جمل, ولا الطريق اني طريق " وليقول في مكان اخر: " … بحيث يبدو العمل الفني بعد ذلك ( اثراً ) متروكاً نستطيع ان نجد فيه معنى للوجود الانساني اجمع والوجود اللا انساني على السواء " ( الرؤية الفنية التأملية او مقدمة في معنى الحقيقة الكونية – المقال نشر ضمن كتاب مؤتمر اتحاد الفنانين العرب المقام في بغداد عام 1972).

لذا فأن مشروع شاكر الفني كان يتضمن الدعوة الى العودة الى الاشياء ذاتها وهو يتمحور حول الدعوة الى الكشف عنها كما تظهر له او لاي انسان اخر. …..

لقد كان هم شاكر اذن منصباً على مبدأ البحث عن مواطن ( التجانس الكلي ) في خياله الصوري وفي الحضارة التي نشاء بين ظهرانيها وهذا التجانس كان الكفيل بتلبية رغبة سعى العمل الفني الى الوصول الى اقصى غاياتها الا وهي النزوع نحو التواجد في عالم يتمتع بوحدة طالما نشدها شاكر وهي (وحدة المتناقضات) او على الاقل الارتماء في احضان ما يمكن تسميته ب(فردوس الوشائج). لقد كان شاكر يتمتع بادراك حدسي غير عادي حيث كان يكشف مراراً عن مواطن التجانس او التواشج بين اشياء تبدو بالنسبة للفهم العادي غير متجانسة او متواشجة وهو الامر الذي دعا الكثيرين الى وصف اعماله الفكرية بكونها غامضة او حتى مبهمة( راجع مقدمة جبرا ابراهيم جبرا لكتاب الحرية في الفن .

عرفت شاكر من خلال احاديثه وكتاباته كفنان ينفر من العنصر الايهامي في الفن وقد عمد الى اسقاط عنصر الايهام من لائحة الشروط الابداعية للانجاز الفني ( فيزيائيًاً ومعنوياً ) فها هو يتمرد مراراً على عنصر الايهام بالبعد الثالث ليقول: يتم التعبير عن ثلاث ابعاد أي عن الكتلة وليس السطح – على سطح ذي بعدين اليس معنى ذلك وتماماً – اسقاط للكتلة من عالمها في الفراغ لحساب السطح التصويري؟ اليس من المنطق ان ننحت الكتلة نحتاً من ان نعبر عنها رسماً؟.

الرؤية التأملية ومشكلة الابعاد المكانية للعمل الفني

"العمل الفني بالاساس يبدأ من القيم المادية ( الشكلية ) ومشاكله، بالاساس، مشاكل الابعاد المكانية".
( جريدة الجمهورية عام 1982 العدد4831)

"…اما الفن التأملي فيستدعي فهم العالم كحقيقة عامة وتامة فهو ( امكان صائر لأن يكون وجوداً )". ملحق الجمهورية 1966 رقم 43

بهذه الكلمات يبدأ شاكر فحصه المضني للعمل الفني فهو بالاساس ( بنية) قبل ان يكون( اشارة ) وهو( تأمل ) قبل ان يكون ( تعبيرا).

يعرّف شاكر التأمل بما يلي: "انه مجال لظهور الحقيقة كما هي, دون ان يكون (هذا التأمل) محملاً فوق طاقته ومثقلاً بمفهوم معين او عجزاً الى الجانب الانساني. اقول : اذا كان التأمل كذلك حقاً فأن الرؤية الفنية وفق هذا الاعتبار تصبح رؤية منبثقة من العالم الخارجي ومتجهة اليه في نفس الوقت".

وفي مكان اخر: "… الواقع ان التأمل الفني في اساسه هو سلبية في الكشف عن الحقيقة. أي ان الفنان يقف متفرجاً على الكون وهو على بكارته الاولى. ومثل هذه الوقفة هي نهاية المطاف وبدايته في آن واحد لأنها تتضمن التسليم". ملحق الجمهورية 1966 رقم 46

سيؤدي اذن هذا التأمل غير المنحاز الى الغاء سلم الاولويات لابطال المشهد البصري, وهكذا سيتبنى شاكر النهج الواقعي ( كموقف ) في اعمال الفرنسي ( كوربية ) كما كان يشير الى ذلك في محاضراته لنا او كما سيوضح وبذات المعنى في مقالته المعنونة: (( الرسم مادة الحياة )) والتي نشرت قي جريدة ( صدى الاهالي ) حيث لا فصل طبقي بين الكائنات في المشهد المصور ما بين الانسان والحيوان والجماد ولتختلط عناصر الوجود في كل متحد غير متفاضل وهي النزعة ( الوئامية ) التي سترافق مسيرة الابداع لديه الى النهاية. بيد انها ستكون وئامية في ( الموقف ) من عناصر المشهد المصور في بدايات الفنان لتتحول فيما بعد الى وئامية ( الاسلوب ) في المراحل المتقدمة من تطوره - علي ان انوه هنا ان التأمل كمفهوم ظهر لدي شاكر في مرحلة الستينات ولكن هذا لا يمنع من اكتشاف بوادره في مرحلة الخمسينات في مسيرته الابداعية - وهكذا سيصرح فيما بعد في كتابه ( الحرية في الفن, الصفحة 10 ): " … فأن دور( الاشكال الحيوية ) ليس في ان تطبع بوسمها الحيوي الا على قلوبنا وبصائرنا. لها ان نقول بلغتها الشاملة اننا جميعا نكون عالماً واحداً, ولا ان يقول ( الجمل ) انني جمل, ولا الطريق اني طريق " وليقول في مكان اخر: " … بحيث يبدو العمل الفني بعد ذلك ( اثراً ) متروكاً نستطيع ان نجد فيه معنى للوجود الانساني اجمع والوجود اللا انساني على السواء " ( الرؤية الفنية التأملية او مقدمة في معنى الحقيقة الكونية – المقال نشر ضمن كتاب مؤتمر اتحاد الفنانين العرب المقام في بغداد عام 1972 ). لذا فأن مشروع شاكر الفني كان يتضمن الدعوة الى العودة الى ( الاشياء عينها) وهو يتمحور حول الدعوة الى الكشف عنها كما تظهر له او لاي انسان اخر. وليقول ايضاً: كنت ابلور من خلال هذه الرؤية ( التجريد الشكلي) ب( التجريد المضموني ) فلا اقتصر على عنصر ما من عناصر الوجود, بل احاول ان احقق شمولية وجود كل العناصر الحياتية في حالة اتحاد, او جدلية وفي هذا السياق رسمت لوحتي : " العودة الى القرية " و " سوق الخميس " مثلا وفي هذا السياق عينه ادخلت عناصر من الفن الشعبي في اعمالي " زين العابدين ", "جثة وحمامتان " , " العباس " … الخ حيث حاولت ان اطور مفهومي عن ( الفن الحيوي ) الى مفهوم جديد اكثر صلة بالانسان , وهو: شعبية الرمز الانساني وبطولته , وهكذا بدأت بالرؤية التي تمنح الشخصيات المرسومة بأسلوب حيوي قيماً ( رمزية ) غنية بالحركة والجدلية , فالشخصية المرسومة, شكلياً , تمثل ( حدثا ً) تاريخياً , او شخصية تاريخية, لكنها, في الوقت عينه, تحقق وجوده في الحاضر. أي ان زين العابدين لم يعد( الشخصية الاسطورية ) المعروفة في (مقاتل الطالبيين ) , بل هو ايضا (ً السجين السياسي ). ( من حوار له مع ماجد السامرائي صدر في جريدة الجمهورية عام 1982 العدد 4831 ) .
لقد كان هم شاكر اذن منصباً على مبدأ البحث عن مواطن ( التجانس الكلي ) في خياله الصوري وفي الحضارة التي نشأ بين أحضانها وهذا التجانس كان الكفيل بتلبية رغبة سعى العمل الفني الى الوصول الى اقصى غاياتها الا وهي النزوع نحو التواجد في عالم يتمتع بوحدة طالما نشدها وهي (وحدة المتناقضات) او على الاقل الارتماء في احضان ما يمكن تسميته ب(فردوس الوشائج) او ما أسماه فيما بعد ب" وحدة اللوحة ".

لقد كان شاكر يتمتع بادراك حدسي غير عادي حيث كان يكشف مراراً عن مواطن التجانس او التواشج بين اشياء تبدو بالنسبة للفهم العادي غير متجانسة او متواشجة: " منذ مطلع اللحظات الاولى كانت حشرجة الميت تلتقي بصرخة الوليد . فعلى طول ( منحنى ) الانسان الانساني تلتقي جزئيات خيط وسيف ". ( عن مقال شاكر المعنون " مرد الرأس الطعين الى الجسد " نشر في مجلة الكلمة عام (1972) والمفردتان: خيط وسيف, هما ما استعاره شاكر من مفردات ابي البركات البغدادي في نظريته عن (الآن الزماني) والذي يعرفه بكونه اشبه ما يكون بنقطة ثابتة على حد سيف تمر عليها جميع نقاط الخيط وهي ما يرمز بها الى الماضي و الحاضر والمستقبل, أي انها جميعاً تمر بآن واحد. مثل هذه المقابلات وغيرها والتي وصفها شاكر بالرؤية التكعيبية للاحداث ( أي تعدد زوايا الرؤية للموضوع) او من خلال الاعتماد على منهج ابي البركات البغدادي حيث الايمان بانخراط جميع الازمنة في كل متواشج ومتداعي في الآن الزماني.

فاذا كان شاكر مهتما بالغاء العنصر الايهامي في الفن على صعيدي التعبير والابعاد الى الحد الذي يوصلنا فيه الى مواجهة سطح الصورة الحقيقي عينه من خلال اللجوء الى منهج اختزالي تقشفي يصل بنا الى مرحلة البعد الواحد – بمشكلته التقنية – فان نظيره الفرنسي مارسيل دوشامب سيلجأ الى بحث امكانية الايحاء بالبعد الرابع (غير المرئي) وبالذات في عمله المعنون " العروس, منزوعة الثياب من قبل فتيانها… الخ " ليواجه نفس المعضلة (استحالة التعبير عنه فيزيقياً) وليقول في ذلك: "…انا آمنت بفكرة تجسيد البعد الرابع غير المرئي في عملي ومثل هذا الشيء لا يمكن ادراكه من خلال العين. ثمة اعتقاد كان عندي, فحواه هو: بما ان المرء يستطيع ان يحصل على ظل لأي شيء ثلاثي الابعاد وتماما مثلما تفعل الشمس مع الارض حيث تمنح الاشياء ذات الابعاد الثلاثة ظلالا ذات بعدين, اعتقدت بعد عملية فكرية بسيطة ان البعد الرابع يستطيع ان ياتي لنا بشيء ذي ثلاث ابعاد كنتاج له, وبعبارات اخرى ان الشيء ثلاثي الابعاد يمكن له ان يكون نتاج لشيء رباعي الابعاد نجهله. (العروس) وهي احدى شخصيات الزجاجة الكبيرة كانت قائمة على اساس هذا المبدأ بمعنى انها كما لو كانت نتيجة لشيء ذي ابعاد اربعة". ( عن كتاب حوار مع دوشامب للكاتب بيير كابانة). وهكذا, فحين يعول شاكر المفعم بحضارته الاختزالية على البعد الواحد من جهة كونه ( فناء للابعاد ) ويقدمه لنا كخط ( في معرض تأملات ومعارج عام 1974مثلا ) داعيا الى الرجوع الى اصله وهو النقطة وهي اللا شيء بالمعنى الفيزيقي . يذهب دوشامب الى اقصى حدود الحقل المعرفي بالابعاد وهو البعد الرابع داعيا الى الرجوع الى اصله وهو الحركة او الزمان. كان هم شاكر (الابعادي) هو التعبير عن اللا شيء ( النقطة ) أي ( فناء الابعاد ) على سطح ذي بعدين مما سيؤدي الى ان يواجه عمله الابداعي تلك المشكلة الفلسفية القائمة على تتابع التوكيدات " من لاشيء لاشيء يصدر. فمفهوم اللاشيء, اذن, سواء كنا نفكر فيه او نتحدث به, او نكتب عنه. يحطم ذاته لانه ينتج شيئاً " ( عن كتاب مسرح الطليعة للكاتب ليوناردو كابل برونكو) .

الاختزال, الاثر, الكشف

هذه الكلمات الثلاثة هي بمثابة اقطاب اساسية في بحث شاكر الفني : فالاختزال كموقف يتمحور مثلا ضمن بحثه في مشكلة الابعاد, حيث يعمد الى الوصول بهذه الاخيرة الى مستوى التعبير عن بعد واحد على سطح الصورة ثنائي الابعاد. وهو الموضوع الذي استغرق شاكر فيه وقتا طويلا , ومنذ بيانه حول البعد الواحد في السبعينات.حيث يفرد للخط مساحة كبرى فيه.

على ان الاختزال لديه لا يقف عند هذا الحد, فهو اختزال للفكرة بالتقشف في التعبير عنها وباقل المفردات واكثرها تركيزا ووفاء للمعنى. وهو اختزال للعالم الى حد التعبير عنه بالجدار , واختزال لأشياء هذا العالم بواسطة الاوفاق ( علم الحروف والارقام) واختزال للمكان من خلال جعل اللوحة عينة لكل الأمكنة. واختزال للزمان من خلال الحرف المكتوب, حيث يتخلى عن طابعه المكاني من لحظة قراءته والتي هي حركة ذهنية زمانية.
واخيرا سيعمد في سنوات عمره الأخيرة الى اختزال سطح الصورة عينه من خلال تواجد صورتين على وجهيه وهو ماسماه ب(اللوحة المزدوجة).

اما استبدال الشكل بالاثر على سطوح اعماله فهو محاولة الى الابتعاد عن فكرة الرسم بصفته التقليدية ( اقصد هنا بالصفة التقليدية مايمكن وصفه بالايهام بوجود الاشياء على سطح الصورة بواسطة الوسائل المعروفة مثل الفرشاة او الالوان والقلم وغيرها) بل من خلال جعل الاشياء ذاتها ترسم ذاتها عن طريق افساح المجال لها لترك اثارها على سطح الصورة.

على ان الاثر عند شاكر يأخذ طابع وثيقة عن موثوق في الوقت الذي يكون فيه بديلا عن التجسيم المباشر للاشياء, وهو عدا هذا وذاك رجعة الى العهود الاولى للابداع الانساني أي العصور الاولى لتاريخ البشرية: اثار ايدي الانسان الاول على جدران الكهوف.

الكشف هو المرحلة الاخيرة والاكثر مدعاة الى الجدل حيث يعلن مرارا عن فكرة ايجاد فن بلا فنان وهي نهاية المطاف الابداعي وهو ماسيؤدي الى الغاء الادوار التقليدية لكل من المشاهد والفنان والمحيط, حيث من الممكن ان يتحول كل من الفنان والمشاهد الى مجرد متلقين للعالم المحيط ومتذوقي له.وبالطبع, لاتخفى علينا جذور مثل هذا الموقف الاخير لديه فهي تمتد في عمق التراث الصوفي لحضارتنا وهي ايضا ليست غريبة على السياق التطوري الذي يمر به فن اليوم منذ ان طلع علينا الفنان الالماني جوزيف بويس بفكرة النحت الاجتماعي.
اخيرا, اقول انني في هذه العجالة لا اطمح الى تقديم دراسة معمقة وشمولية لفكر شاكر الابداعي, بل الهدف هنا هو المرور السريع بمحطاته الفكرية, خصوصا اذا عرفنا بان الرجل لم يتوان عن شرح وتدوين افكاره في كل مناسبة ووقت, وهو لن يكن غامضا لمن يجتهد في التعرف على فكره بقليل من التركيز والصبر.

نشر هذا النص عام 2005 في مجلة ثقافات البحرينية (العددين الخامس عشر والسادس عشر وهما عددين في كراس واحد) والتي تصدر عن جامعة البحرين, في ملف خاص اعد بمناسبة مرور عام على وفاة الفنان شاكر حسن ال سعيد

 

 

 

Published Date: 
2019